• ٣٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العدالة وعقلانية الثورة

د. وليد سعيد البياتي

العدالة وعقلانية الثورة

◄على مسار حركة التاريخ سعت الرسالات السماوية إلى تحقيق مفهوم العدالة بين أفراد المجتمعات كقيمة أخلاقية، تستمد فكرتها من العدل إلالهي، والعدالة ليست مفهوماً علمياً، ولا أمراً قابلاً للقياس والمقارنة، ولا هي موقفاً خاضعاً للتجارب العلمية، في حين أنّها تقييم خلقي وتاريخي للموقف الإنساني تستلهم الشريعة السماوية أهدافها، وهكذا فالفعل يكتسب قيمته العدالية أي يصبح فعلاً عادلاً عبر ارتباطة بالشريعة، وهكذا يصبح الفعل الشرعي فعلاً عادلاً. واستناداً إلى هذه الفكرة يمكن تقييم ثورة الإمام الحسين (ع) باعتبارها ثورة عادلة من خلال شرعيتها، وارتباطها بالأصول الإلهية، إضافة إلى فكرة عقلانية الثورة المستمدة تاريخياً من عوامل روحية وثقافية تؤثر تأثيراً عقلانياً في مسارات أحداث حركة التاريخ في مسيرتها لتحقيق سعادة الإنسان مع ملاحظة مشاركة الإنسان كعامل أساسي في صنع التاريخ.

إنّ النظر إلى الثورات باعتبارها عمليات تغيير تهدف إلى تحقيق العدالة من موقف شرعي يتبنّى حاجات الإنسان الروحية والاجتماعية والاقتصادية، يعتمد على تقييم الثورة وفق المعيار الشرعي، وبهذا فهي لا تخضع لحسابات الربح والخسارة من مفهوم مادّي في الوقت التي تتجاوب فيه مع تطلّعات الإنسان لتحقيق الخلافة الشرعية وهذه ترتبط من جانب آخر بالوعي، وهنا يتجلّى الفرق بين الأهداف الخياليه والأسطورية للثورات المادّية، باعتبارها تنزع إلى تحقيق أهداف مجزوءة وغير كاملة أو إنّ تفاعلاتها قصيرة التأثير، قد لا تتجاوز المرحلة الزمنية لولادة الثورة، وهذا يكشف عن قصور ذاتي في عواملها وغاياتها، وبذا تفقد الثورة مصداقيتها واندفاعها بفقدانها لعوامل شرعيتها فتصاب بالجمود نتيجة لعدم التفاعل بين عواملها وغاياتها، فالثورة الفرنسية فقدت عنفوانها واندفاعها بعد أقل من ثلاثة عقود على ولادتها على الرغم من كلّ الأحلام الجسام التي بُنيت عليها، وعلى الرغم من أهدافها التي جعل منها مؤرخو الغرب آخر مطامح الإنسانية التي تمثّلت بمقولات العدالة والمساواة والأخوة.

لقد اختفت الثورة الفرنسية ولم تعدّ عاملاً محركاً للفكر الثوري الحديث وضاعت بين مفاهيم ومقولات النظام الديمقراطي الليبرالي والذي هو الآخر أثبت فشله بعد انهيار نظرية نهاية التاريخ لفرانشيسكو فوكوياما والتي أنكرت في حينها حقّ الإنسان في التغيير المرتبط بالجانب الروحي أو السماوي، وافتقدت الشكل العقلاني في تعاملها مع الإنسان كصانع ومؤثّر في حركة التاريخ والتي تتفق إلى حدِّ كبير مع الفلسفة الماركسية في ضياع الهدف الحقيقي، وقصور العوامل، إذ كلتا المدرستين الليبرالية والماركسية اعتمدت على شرعية وهمية، وتبنّت قيماً لا تتفق مع الحس الإنساني وقدمت مشروعاً مشوهاً لا ينتهي إلى غاية حقيقية.

في الجانب الآخر نجد البناء الكوني لثورة الإمام الحسين (ع)، فالجذور التاريخية للثورة تستمد شرعيتها من الشريعة الإسلامية، وفكرة الخلاص في المجتمع الإسلامي متجذرة في أصل العقيدة، وتحرّك الموقف باتجاه الثورة التي لا يمكن أن تتحقق تاريخياً وشرعياً في فكر أهل البيت إلّا من خلال القيادة الشرعية، فكان الإمام الحسين بن علي (ع)، والخلاص ليس تخميناً ميتافيزيقياً، أو فكراً وهمياً متجرداً عن الأصل العقائدي، بل إنّه قوّة تعبوية للأُمّة في مسيرتها نحو تحقيق مُثل عليا، وهنا تتحقق عقلانية الثورة باعتبارها تمهيداً عميقاً لذهنية الأُمّة في مسيرتها نحو المستقبل الأكثر أملاً، فتكون ثورة الإمام الحسين إشراقاً مستقبلياً لتحقيق الخلافة باسم الشريعة، وباسم حركة التاريخ باتجاه الخط الرسالي، وهنا نجد أهمية الإنسان الفرد، وأهمية الأُمّة في تجاوز العقبات بما تملك من عوامل روحية وعقلية تجعلها تتطلّع باستمرار نحو مُثل عليا وأن تعرّضت وتتعرّض باستمرار إلى حالات من النكوص نتيجة لانحرافه واتباعها في بعض الأحيان مثلاً مزيفة، وقيماً منحطة، لكنّها تبقى تمتلك في ذاتها قدرات داخلية من عقيدتها تدفعها نحو النهوض، فعملية التغيير تبدأ من الذات لإزالة كلّ حالات الاستغلال والاستلاب، وهي تعتمد على الإنسان في إدراك التناقض بين المادّي والإلهي، كما أنّ إدراك الإنسان المؤمن بأنّ التناقض بين المصلحة الفردية والجماعية سيزول ويتلاشى عبر الإيمان بأنّ حياة الإنسان كوجود وقيمة لا يمكن أن تنتهي بالموت الجسدي باعتبار الجزاء الآخروي، ما يرتّب ارتباط الفكر الثوري بالحياة الآخرة ارتباطاً عضوياً وليس ميتافيزيقياً، فيعطي للثورة قيمة عقلية عليا.

إنّ فكرة تحقيق الحياة الآخرة عبر العمل في الحياة الدنيا تكرّس قيم ومفاهيم العمل الصالح وتقوى الله والجهاد، والتي تتجاوز بصورة جذرية الأُطر الآنية والنفعية الضيّقة للثورة من مفهوم الفكر المادّي. فثورة الإمام الحسين استلهمت ديموميتها وعبقريتها وعدالتها من العقيدة السماوية لتحقيق سعادة الإنسانية كلّ الإنسانية، والفرد سيكتشف ذلك من خلال إدراك القيم الحقيقية لعدالة الثورة وعقلانيتها.►

 

المصدر: الرأي الآخر للدراسات - لندن

ارسال التعليق

Top